صلاح قابيل في ذكرى الميلاد.. صاحب الوجه الفني المتعدد
في مثل هذا اليوم، السابع والعشرين من يونيو عام 1931م، وُلد واحد من أكثر وجوه الشاشة المصرية تأثيرًا، حفر ملامحه في ذاكرة الأجيال بأدوار لا تُنسى، وبين جدّية القانون الذي بدأ به حياته الدراسية، وسحر الفن الذي أسر قلبه، نشأ صلاح قابيل ليكون صوتًا ووجهًا من وجوه مصر الأصيلة في الدراما والسينما.
ولد محمد صلاح الدين أحمد قابيل في قرية نوسا الغيط بمحافظة الدقهلية، ونشأ في بيئة ريفية اتسمت بالهدوء والبساطة، وكان الابن الثاني بين 4 أطفال، وفقد والدته في سن مبكر؛ مما ترك أثرًا نفسيًا عليه، ولكن ما إن أنهى دراسته الثانوية، حتى انتقل إلى القاهرة ليبدأ مشواره الجامعي في كلية الحقوق.
وكما يفعل القدر أحيانًا، لم يكن القانون وجهته الحقيقية، فسرعان ما جذبته الأضواء، والتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية، ليبدأ الرحلة الحقيقية نحو الخلود الفني ، تخرج من المعهد وانضم إلى فرقة مسرح التلفزيون، وشارك في أعمال مهمة مثل "شيء في صدري"، "اللص والكلاب"، و"ليلة عاصفة جدًا" .
كان صلاح قابيل يتمتع بوجه مصري خالص، يصلح لكل الأدوار، من الضابط الصارم إلى الفلاح البسيط، ومن المحامي الذكي إلى المجرم المخادع. لم يكن نجمًا يُحب التقيد بنمط أو نوع معين، بل تنقل بسلاسة بين الشر والخير، بين الحب والعداوة، بأسلوب لا يجيده إلا أصحاب الموهبة الحقيقية.
في فيلم "زقاق المدق" عام 1963م، المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ، قدّم أحد أبرز أدواره في شخصية "عباس الحلو"، فكان بوابته الواسعة إلى قلوب الجماهير ثم توالت الأدوار، ليصل إلى ذروة نضجه الفني في أفلام مثل: (نحن لا نزرع الشوك، أغنية على الممر، بين القصرين، دائرة الانتقام، البرئ، السكرية، ليلة القبض على فاطمة، حب فوق هضبة الهرم، الراقصة والسياسي، بطل من ورق)، والعديد من الأفلام .
وفي الدراما التلفزيونية، أصبح علامة فارقة في أعمال مثل: القاهرة والناس" (1972م)، "دموع في عيون وقحة" (1980م)، "بكيزة وزغلول" (1986م)، ليالي الحلمية، حيث ترك غيابه فجوة لم يستطع أحد ملأها، حتى بعد أن أُعيدت كتابة دوره بسبب وفاته المفاجئة، وكذلك في مسلسل ذئاب الجبل الذي أكمل دوره فيه الفنان عبد الله غيث.
ما يميّز صلاح قابيل لم يكن فقط قدرته على التمثيل، بل أيضًا صوته العميق، ونظراته التي تحكي، وحضوره الطاغي الذي يجعل المشاهد لا ينسى الشخصية بعد انتهاء العمل. لم يكن بطلًا تقليديًا، بل كان بطلًا في كل دور يؤديه.
الناقدة الفنية ماجدة خيرالله قالت عنه في إحدى مقالاتها :"كان صلاح قابيل فنانًا يُشبه شوارع القاهرة القديمة، عميقًا، متقلبًا، حقيقيًا... لا يمكنك أن تنظر إليه دون أن ترى طبقة من التاريخ خلف عينيه".
تألق في تجسيد أدوار شريرة وأخرى طيبة، ما جعله رمزاً للتنوّع في الأداء، من رجل الشرطة إلى النصّاب والمزارع والسياسي، وصولاً إلى الضابط والراهب.
كان أحد أبرز ممثلي الواقعية في التمثيل المصري، وناقشته أعماله بين التراجيديا والكوميديا بطريقة احترافية.
في حياته الشخصية، كان قابيل متحفظًا، بعيدًا عن ضوضاء النجومية، عاش حياة أسرية هادئة، وأنجب أبناءً كان من بينهم المخرج المسرحي عمرو قابيل، ومع ذلك، لاحقته بعد الوفاة شائعة غريبة أثارت جدلاً كبيرًا: أنه "دُفن حيًا". لكنها سرعان ما نُفيت على لسان ابنه، وأكدت العائلة أن الوفاة كانت نتيجة أزمة قلبية مفاجئة نتيجة مضاعفات مرض السكري والضغط.
في مارس 2023، قامت عائلته، وعلى رأسها نجله عمرو، بالتبرع بمقتنياته الفنية والشخصية إلى متحف المركز القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، لتخليد ذكراه ضمن مشروع توثيق رموز ورواد الفن المصري.
كما تعاد أعماله على الشاشات في كل ذكرى، ويُستشهد بأدواره في كتب النقد الفني ومحاضرات معاهد المسرح، كأمثلة حية على التمثيل الواقعي والانفعالي المدروس.
في ذكرى ميلاده، لا نتحدث فقط عن فنان راحل، بل عن "حالة" فنية نادرة، رجلٌ ترك خلفه مدرسة كاملة في الأداء، وجمهورًا لا يزال يرى نفسه في ملامحه، لقد علّمنا أن البطولة ليست بحجم الدور، بل بعمقه وتأثيره، صلاح قابيل كان فناناً فكّك تصنيفات التمثيل، وتجاوز أدوار "البطل" و"الشرير" ليقدم أشكالاً متعددة من الإبداع، عبر حياته القصيرة نسبياً، نجح في تقديم أكثر من 70 عملًا تركت أثرًا في الدراما والسينما المصرية، شجاعته في التنوع واحترافيته في التعبير جعلته من أسماء الفن الجميل الذين تستحق أعمالهم أن تعاد وتُدرس، إرثه محفوظ في الذاكرة الجماهيرية، وأعماله تُذكر عند كل ذكرى لميلاده.
كتب بقلم