قصور الثقافة في مصر..هل مازالت تؤدي دور الثقافة الجماهيرية أم تراجعت ؟
تحقيق: محمود جاد
قصور الثقافة في مصر من الركائز الأساسية التي تسهم في نشر الوعي الثقافي وتعزيز الهوية الوطنية، حيث تتنوع أنشطتها لتشمل الأدب، والفنون، والمسرح، والموسيقى، والفلكلور الشعبي. ومنذ تأسيسها في القرن الماضي، شهدت هذه المؤسسات الثقافية العديد من التحولات التي جعلت دورها يتأثر بالتغيرات الاجتماعية والاقتصادية.
في هذا التحقيق، نتناول التحديات التي تواجه قصور الثقافة في العصر الحالي، مثل نقص التمويل، وتأثير التحول الرقمي، وتراجع التفاعل الجماهيري، بالإضافة إلى المقترحات التي قدمها العديد من المثقفين والخبراء في هذا المجال من أجل تعزيز دور قصور الثقافة في دعم الإبداع وتنمية المواهب.
الشاعر جابر بسيوني، أمين صندوق اتحاد كتاب مصر، ورئيس نادي أدب قصر ثقافة الأنفوشي، يعبّر عن أن الأهداف الرئيسية لقصور الثقافة، قد اختلفت بشكل ملحوظ منذ تأسيسها في الستينيات. ففي ذلك الوقت، لم يكن المجتمع يعاني من التحديات الثقافية التي نواجهها اليوم، مثل الصراع على المناصب الإدارية وكثرة المدعين بأنهم أبرز الأدباء والمبدعين. كما أن قصور الثقافة في الوقت الحالي بحاجة إلى تمويل مالي لتلبية احتياجاتها وضمان تقديم خدمات ثقافية متميزة.
ويضيف بسيوني أن التحديات التي تواجهها قصور الثقافة اليوم تتجاوز الصعوبات المالية، لتشمل تداخل الأنشطة الثقافية مع قضايا بعيدة عن الإبداع، مما أدى إلى تشويش الهوية الثقافية لهذه المؤسسات. ويشير إلى أن مبدعي العصر قد ابتعدوا عن المشاركة في الأنشطة الثقافية بسبب غياب الرموز الثقافية الحقيقية في قصور الثقافة بعد تطبيق لائحة نوادي الأدب، التي تسببت في تقليص دور الشخصيات المبدعة.
ويؤكد أن قصور الثقافة، تسعى وراء زيادة مواردها المالية، كما لجأت إلى تأجير القاعات والمسارح لعرض الأفلام وتنظيم الفعاليات، وهو ما أثر على جودة الأنشطة الثقافية وحرفية الإبداع. فقد أدت هذه الإجراءات إلى تقليص الأنشطة الثقافية الأصلية التي كانت تستهدف تطوير المواهب وتنمية الفكر الثقافي.
ويوضح بسيوني أن غياب التفاعل الجماهيري مع الأنشطة الثقافية في الوقت الحالي، بالإضافة إلى انخفاض أعداد الحضور في الندوات الأدبية والفنية، يدل على الحاجة الملحة إلى تجديد طرق التعامل مع المبدعين. بالإضافة إلى إعادة النظر في لائحة نوادي الأدب بما يتناسب مع الوضع الراهن، والتعامل مع المبدعين بشكل يليق بقيمتهم وتاريخهم الثقافي.
كما يقترح بسيوني ضرورة تنظيم مؤتمر موسع لدراسة سُبل النهوض بقصور الثقافة، تحت عنوان "مستقبل قصور الثقافة: الواقع والمأمول"، مع التأكيد على ضرورة استغلال التكنولوجيا والوسائل الإلكترونية لدعم الأنشطة الثقافية والإدارية. و دعوة كبار المبدعين للمشاركة في تدريب وتوجيه المواهب الشابة سيسهم في تعزيز دور قصور الثقافة كمركز رئيسي للإبداع الثقافي.
وفي ختام حديثه للقاهرة يؤكد بسيوني أنه على الرغم من التحديات، فإنه مستمر في رعاية المواهب في قصر ثقافة الأنفوشي ومراكز الشباب، وأنه يعتبر هذا جزءًا من رسالته الحقيقية كفنان ومبدع. وأن قصور الثقافة تظل الطريق الرئيسي للنهوض بالإبداع وتطوير المواهب في كافة المجالات الثقافية والفنية.
أما الكاتب والروائي الكبير رشاد بلال، يوضح أن أهداف قصور الثقافة تتمثل في فتح الأبواب أمام الناس، مما يساهم في زيادة معرفتهم بالأدب والفنون والثقافة بشكل عام، وكذلك في رفع مستوى الوعي الثقافي.
ويشير إلى أن تمويل قصور الثقافة يأتي من بند مخصص في الميزانية العامة، بالإضافة إلى تأجير بعض الأماكن في القصور مثل المسارح أو قاعات عرض السينما أو الفنون التشكيلية.
وتتنوع الأنشطة الثقافية من قصر ثقافة إلى آخر، حيث تشمل الأدب والشعر، وفرق المسرح، والمحاضرات التي تتناول مختلف الثقافات. وتختلف الأنشطة بحسب الأقاليم، إذ تتباين حسب أولويات كل إقليم واحتياجاته الثقافية، ما يجعل كل قصر ثقافة يقدم أنشطة متنوعة تتناسب مع جمهوره المحلي.
أما عن تفاعل الجماهير مع هذه الأنشطة، فيؤكد رشاد بلال، أن الجمهور الذي يحضر هذه الفعاليات يكون عادةً مستعدًا للمشاركة والتفاعل، مما يعكس نجاح هذه الأنشطة في جذب اهتمام الناس. وفيما يتعلق بدور قصور الثقافة في تعزيز الهوية المحلية، و أن هذا الدور مهم ومؤكد، حيث ينعكس مكان كل قصر ثقافة، سواء في الشمال أو الجنوب، على دوره في تعزيز الهوية الثقافية المحلية.
أما بالنسبة لدور قصور الثقافة في الوقت الحالي مقارنةً بالماضي، يرى رشاد أن هذا الدور قد تراجع قليلًا بسبب انتشار الإنترنت، الذي أصبح منصة مفتوحة لعرض ثقافات متنوعة، وهو ما أثر على قدرة قصور الثقافة على جذب الجمهور بشكل كبير كما كان في الماضي.
وفيما يخص تأثير التحول الرقمي على قصور الثقافة، يوافق الأديب رشاد بلال، على وجود تأثير ملحوظ لهذا التحول، والذي يتطلب من هذه المؤسسات التكيف مع التغيرات التكنولوجية الحديثة لمواصلة دورها الثقافي.
وفيما يتعلق بتطوير وتعزيز دور قصور الثقافة، يشير بلال رشاد إلى ملاحظة مهمة تتعلق ببعض الموظفين في هذه المؤسسات الذين يفتقرون إلى الحس الثقافي المطلوب في عملهم. ويقترح رشاد تنظيم دورات تدريبية لتطوير مهارات هؤلاء الموظفين وتعزيز حسهم الثقافي، مما يسهم في تحسين أداء قصور الثقافة ويعزز دورها في المجتمع.
الدكتورة رشا الفوال، الكاتبة والناقدة والأكاديمية، تؤكد أن قصور الثقافة تهدف إلى عدة أهداف أساسية، منها نشر الوعي الثقافي وتعزيز القيم الوطنية من خلال البرامج الثقافية المتنوعة، ودعم المواهب الشابة وتوفير منصات لتطويرها. و الحفاظ على التراث الثقافي المحلي والاهتمام به، و تحقيق العدالة الثقافية من خلال تقديم الخدمات الثقافية في المناطق النائية والمهمشة.
وتشير أن قصور الثقافة، تعتمد على ميزانيات مخصصة من الدولة، وأحيانًا على شراكات مع مؤسسات ثقافية أخرى. ورغم ذلك، تعد قلة التمويل من أكبر التحديات التي تؤثر في القدرة على تطوير البرامج وتنظيم الفعاليات، حيث أن توفر التمويل الكافي يساعد على تقديم أنشطة متنوعة وبجودة عالية.
وتضيف أن الأنشطة التي تقدمها قصور الثقافة عديدة وكثيرة، وتشمل ورش العمل المسرحية، الفنون التشكيلية، والموسيقى، بالإضافة إلى الأمسيات الشعرية والقصصية، والمعارض الفنية، والعروض المسرحية والسينمائية. كما تقدم أيضًا الندوات الثقافية والتوعوية، فضلاً عن البرامج التدريبية للأطفال والشباب في الحرف والفنون.
ورغم تنوع الأنشطة، يوجد تفاوت ملحوظ في تقديم الخدمات الثقافية بين الأقاليم، وذلك بسبب عدة عوامل مثل اختلاف مستوى التمويل والدعم، تباين الكوادر الثقافية في كل إقليم، وأيضًا تأثير التعاون المحلي مع الجهات الثقافية الأخرى.
أما التفاعل مع هذه الأنشطة، فيختلف حسب اهتمامات السكان المحليين. في بعض الأقاليم، يكون هناك إقبال جيد على الفعاليات التي تتناسب مع احتياجات الجمهور، بينما يؤدي ضعف الدعاية إلى قلة التفاعل في بعض الحالات.
وتنوه رشا الفوال، أن قصور الثقافة تلعب دورًا إيجابيًا في تقديم أنشطة تخص التراث المحلي، مثل إحياء الفلكلور الشعبي والاحتفاء بالموروث الثقافي الخاص بكل إقليم، بالإضافة إلى تدريب الأجيال الشابة على الحرف التقليدية والفنون الشعبية، كما تساهم قصور الثقافة في حفظ التراث الشعبي وإبرازه للأجيال الجديدة، حيث تعد منصة لتعليم الحرف التقليدية والفنون المحلية، وتساعد في تعزيز الوعي بالعادات والتقاليد المحلية، مما يسهم في ترسيخ الانتماء لدى الأفراد.
أما التحديات التي تواجه قصور الثقافة، تقول إنها متعددة، ومنها نقص التمويل اللازم لتطوير المرافق وتنويع الأنشطة، قلة الكوادر المؤهلة لإدارة البرامج الثقافية، وتراجع اهتمام الشباب بالأنشطة التقليدية مقارنة بالأنشطة الرقمية. كما أن غياب استراتيجيات تسويقية فعالة لجذب الجمهور، إلى جانب المشاكل اللوجستية المتعلقة بالبنية التحتية في بعض المناطق، يشكل تحديًا إضافيًا.
ورغم هذه التحديات، ما زالت قصور الثقافة تلعب دورًا مهمًا في الثقافة الجماهيرية، لكن دورها قد تقلص مقارنةً بالماضي بسبب منافسة وسائل الإعلام الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي. ومن هنا، أصبح من الضروري تحديث أنشطتها وأساليب عملها لتواكب التغيرات في المشهد الثقافي.
وتري أن التحول الرقمي، قد فتح المجال للوصول إلى جمهور أوسع من خلال الأنشطة الافتراضية، وأدى إلى ظهور منصات إلكترونية تنافس قصور الثقافة في تقديم المحتوى الثقافي الواقعي، ما يتيح بث الفعاليات المباشرة. ومع ذلك، قد يؤدي هذا إلى ضعف الحضور الميداني إذا لم تُوازن قصور الثقافة بين الأنشطة الواقعية والرقمية بشكل مناسب.
وفيما يتعلق لتطوير وتعزيز دور قصور الثقافة في الأقاليم، تقترح رشا الفوال، أنها تشمل، زيادة التمويل الحكومي وتشجيع الشراكات مع القطاع الخاص، تدريب كوادر مؤهلة لتقديم برامج مبتكرة ومتجددة، استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للترويج للأنشطة وجذب الشباب، تعزيز التعاون بين قصور الثقافة والأندية الشبابية والمدارس، رقمنة الأنشطة وإنشاء أرشيف إلكتروني للأحداث والفعاليات، ربط الأنشطة الثقافية بالتنمية الاقتصادية، مثل الترويج للسياحة الثقافية. وتهدف هذه المقترحات إلى تعزيز دور قصور الثقافة في الأقاليم بما يعزز من تأثيرها الثقافي والاجتماعي.
فيما تري الكاتبة والناقدة نجلاء نصير، أنه لا يوجد تفاوت في مستوى الأنشطة الثقافية، حيث إن جميع الأنشطة تخضع لأهداف الرؤية والرسالة الخاصة بالهيئة العامة لقصور الثقافة. وبصفتي سكرتير نادي أدب الشاطبي التابع لهذه الهيئة، نسعى جاهدين لتحقيق هذه الرؤية في مجال الأدب من خلال مناقشة السرد الأدبي من قصة ورواية وأدب الأطفال. كما يتم في مجال الشعر مناقشة الدواوين والمخطوطات النثرية والشعرية، مستعينين بنخبة من النقاد المتخصصين. يشارك في هذه الفعاليات أيضًا عدد من المثقفين والمبدعين من مختلف المناطق، مما يساهم في إثراء الندوات والفعاليات الثقافية.
وتشير نصير إلى أن الأندية الثقافية تتبع نفس الأهداف والرؤية التي تحددها الهيئة، ولكن يمكن أن يختلف كل نادي في تقديم ومناقشة الأعمال الأدبية. بالنسبة للأنشطة الثقافية، فهي تخضع أيضًا لتوجيهات الهيئة العامة لقصور الثقافة. و أن الجمهور يتفاعل بشكل كبير مع هذه الأنشطة، حيث لا يقتصر التفاعل على الجمهور المحلي فقط، بل يشمل أيضًا جمهورًا من مختلف المحافظات المصرية. هذا التفاعل يثري الفعاليات ويزيد من التواصل بين الأدباء والجمهور، خاصة مع الاهتمام الكبير بالمواهب الشابة التي تحظى بالترحيب والرعاية الكاملة. كما تعمل هذه الأنشطة على تعزيز شعور الشباب بالانتماء للوطن وتوجيه إبداعاتهم لصالح الثقافة الوطنية.
وتتابع نصير أن قصور الثقافة تبذل جهودًا كبيرة لتعزيز الهوية الوطنية، حيث تظل أبوابها مفتوحة لكل مبدع ومثقف. كما تشارك الهيئة في تنظيم مسابقات للنشر الإقليمي لدعم المواهب الجادة، مما يساعد على اكتشاف وإبراز المبدعين من مختلف أنحاء البلاد. عمل قصور الثقافة في هذا المجال يحتاج إلى بذل الوقت والجهد لتحقيق رؤيتها ورسالتها في تنمية الثقافة والتثقيف على مستوى محلي وإقليمي وعالمي.
وتوضح كاتبتنا نجلاء نصير أن مصر بوصفها منارة الثقافة، تستحق أن تتصدر المشهد الثقافي على مستوى العالم، خاصة أن التاريخ الأدبي المصري شهد نبوغ العديد من الكتاب المبدعين، مثل نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل في الآداب عام 1988، وهو المثال الأبرز على تقدير العالم للأدب المكتوب باللغة العربية.
وتؤكد أن دور قصور الثقافة مستمر ولن يتوقف، حيث تسعى الهيئة لتحقيق أهدافها عبر الأنشطة المختلفة التي تستهدف كافة الفئات العمرية، من الأطفال والشباب إلى الكبار. كما تناولت أثر التحول الرقمي في تسهيل عرض الأنشطة الثقافية، حيث جعل من السهل الإعلان عن الفعاليات الثقافية وإتاحة الفرص للمهتمين للمشاركة في الدورات الثقافية والاستفادة من خدمات وزارة الثقافة. التحول الرقمي أيضًا ساهم في تسهيل مناقشة الأعمال الأدبية من مختلف المحافظات، مما عزز التواصل بين المبدعين والجمهور.
وتشير إلى ضرورة توعية الشباب بأهمية الثقافة والإبداع لكي لا يصبحوا عرضة للأفكار الهدامة التي قد يتعرضون لها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. كما أكدت على أهمية المسابقات الإبداعية في تحفيز المنافسة الشريفة بين المبدعين، حيث تقوم الهيئة بتنظيم مسابقات دورية، ربع سنوية، تهدف إلى اكتشاف ودعم المواهب الإبداعية. وتختتم نصير بالتأكيد على أن مصر ستظل دائمًا منارة للفكر والثقافة والتنوير، وأنها ستظل محط أنظار العالم في مجال الثقافة والفكر.
كتب بقلم